lundi 11 août 2008

أنبياء غزة: محمود درويش

أنت منذ الآن غيرك

هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
كم كَذَبنا حين قلنا : نحن استثناء!! أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك
أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، !وغطرسة الوضيع!
أيها الماضي ! لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك
أيها المستقبل : لا تسألنا : مَنْ أنتم؟
وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف .
!أَيها الحاضر ! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل
الهوية هي : ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر.
الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن !نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة
تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد.. ولأنَّ جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة : هل لأمِّك، مثلهما؟
لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم !النبي الجديد !
ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا * * * أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين : إن لم نجد مَنْ يهزمنا ثانيةً هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا !ننسى !مهما نظرتَ في عينيّ.. فلن تجد نظرتي هناك. خَطَفَتْها فضيحة .قلبي ليس لي... ولا لأحد. لقد استقلَّ عني، دون أن يصبح حجراً هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته - أخيه : >الله أكبر< أنه كافر إذ يرى الله على صورته هو : أصغرَ من كائنٍ بشريٍّ سويِّ التكوين؟ أخفى السجينُ، الطامحُ إلى وراثة السجن، ابتسامةَ النصر عن الكاميرا. لكنه لم يفلح في .كبح السعادة السائلة من عينيه .رُبَّما لأن النصّ المتعجِّل كان أَقوى من المُمثِّل ما احاجتنا للنرجس، ما دمنا فلسطينيين وما دمنا لا نعرف الفرق بين الجامع والجامعة، لأنهما من جذر لغوي واحد، فما حاجتنا للدولة... ما دامت هي والأيام إلى مصير واحد؟. لافتة كبيرة على باب نادٍ ليليٍّ : نرحب بالفلسطينيين العائدين من المعركة. الدخول !مجاناً ! وخمرتنا... لا تُسْكِر . لا أستطيع الدفاع عن حقي في العمل، ماسحَ أحذيةٍ على الأرصفة !لأن من حقّ زبائني أن يعتبروني لصَّ أحذية ـ هكذا قال لي أستاذ جامعة >أنا والغريب على ابن عمِّي. وأنا وابن عمِّي على أَخي. وأَنا وشيخي عليَّ<. هذا هو الدرس .الأول في التربية الوطنية الجديدة، في أقبية الظلام من يدخل الجنة أولاً؟ مَنْ مات برصاص العدو، أم مَنْ مات برصاص الأخ؟ !بعض الفقهاء يقول : رُبَّ عَدُوٍّ لك ولدته أمّك لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم !العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد : صورهم في التلفزيون سألني : هل يدافع حارس جائع عن دارٍ سافر صاحبها، لقضاء إجازته الصيفية في الريفيرا الفرنسية أو الايطالية.. لا فرق؟ !قُلْتُ : لا يدافع وسألني : هل أنا + أنا = اثنين؟ !قلت : أنت وأنت أقلُّ من واحد لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف. ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون أنت، منذ الآن، غيرك

samedi 2 août 2008

ملائكة بلا رسائل ورسائل بلا رسل: الأستاذ العادل خضر


يعود الفضل الأوّل والأخير إلى الرّوائي الرّوسي دوستويفسكي والفيلسوف الألماني نيتشه في إدراجهما مفهوم الأبله l'idiot في الخطاب الدّيني الحديث. فلهذا التّعبير مزيّة مكّنتنا من التّمييز بين مفهومي الأبله والملاك. فإذا كانت اللّغة العربيّة والإغريقيّة تتّفقان على أنّ الملاك يعني حامل الرّسالة أو الرّسالة ذاتها (1) فإنّ الأبله يشبه في سماته الملاك، غير أنّه يختلف عنه في سمة فارقة، هي أنّه ملاك بدون رسالة، أو رسول لا يحمل رسالة.
يمكن أن نتساءل ما الغاية من استحضار هذه التّفرقة بين الأبله والملاك؟ نقول لأنّه على منوال الملاك أو الرّسول، حامل الرّسائل، نشأت فكرة مبعوث مّا قد كُلّف بإبلاغ رسالة من السّماء لعُموم النّاس الفانين، وهو لأجل ذلك بطل مخلّص بُعث لتخليص النّاس من العذاب الجسديّ الّذي ينتظرهم في الآخرة وتحريرهم من الضّلال الأخلاقيّ والظّلام الرّوحيّ الّذي يتخبّطون فيه في دنياهم. ولا نحتاج إلى بذل جهود كبيرة لبيان أنّ البطل المخلّص أو المنجّي إنّما هو صيغة مشتقّة من الرّسول. فسواء أكان هذا المخلّص هو المسيح أو الإمام أو المهديّ المنتظر، أو البطل القوميّ أو الزّعيم السّياسيّ أو المناضل الاجتماعيّ... فإنّ هذه الصّور على اختلاف مرجعيّاتها الشّديد تظلّ من منظور بنيويّ بحت ممثّلة لطراز المخلّص بوصفه رسولا يحمل رسالة. وبلغة الموضة، لعلّ "آخر التّقليعات" و"أحدث الصّيحات" الّتي تجلّى فيها المخلّص المنجّي إنّما هي صورة "الواعظ التّلفزيّ" ذاك الّذي يظهر للنّاس على الشّاشة في هيئة تخالف جذريّا الواعظ الكلاسيكيّ الّذي اتّخذ من المسجد فضاء لإلقاء موعظته، ومن المنبر مسرحا لأداء طقوسيتها. هذا الاختلاف بين الواعظين، "واعظ المنابر" و"واعظ التّلافز" (جمع تلفزة، وهو جمع تونسيّ) إن صحّت العبارة هو ما نريد بيانه من ناحية والبرهنة على أنّ الوعظ الدّينيّ الحديث الّذي يتّخذ من التّلفزة وسيطا Médium لا يخدم الدّين في شيء، وإنّما هو يعمل على تقويضه بتعطيل وظائف الدّين كما سنرى.
لقد تعرّض الوعظ الدّينيّ الحديث اليوم إلى رجّتين عظيمتين جعلتاه يفقد صورته التّقليديّة الّتي عهدناها ليتّخذ صورة أخرى مخالفة جذريّا لما كان عليه.أولى الرّجّتين تجلّت لمّا أصبح لخطاب الوعظ الدّينيّ مؤسّستان متنافستان هما مؤسّسة المسجد ومؤسّسة التّلفزة. وفي هذا التّنافس تكمن تحوّلات عجيبة لم نسبر مداها إلى الآن. فإذا كان المسجد يمثّل في دار الإسلام قديما مكان التّلاقي الأمثل والرّؤية الاجتماعيّة، تماما كأسواق الشّعر أيّام المواسم والأسواق التّجاريّة في الجاهليّة، فإنّ هذا الفضاء قد اختطفته التّلفزة اليوم.
نشاهد اليوم احتشادا عظيما للمسلمين، وإقبالا متزايدا على المساجد والجوامع. ولكن أمام هذه الكثرة المتكاثرة من المصلّين لم تعد مؤسّسة المسجد بقادرة على احتواء كلّ هذه الحشود. ولأجل ذلك صار من المشاهد اليوميّة العاديّة أن نرى، خاصّة أيّام الجمعة، فائضا عظيما من المصلّين يؤدّي الصّلاة على قارعة الطّريق، على الحصر أو الزّرابي في أحسن الأحوال، وعلى الكراضن (أو الكراتين) بعد تطهير مكان الصّلاة. فيحتلّ المصلّون لدقائق الفضاء العموميّ معطّلين وظائفه التّواصليّة والمدنيّة إلى حين. وهو تعطيل يقلبه مؤقّتا إلى فضاء مقدّس إذا اعتبرنا المقدّس هو الفضاء المنفصل من فضاء المدينة والزّمان المقتطع من زمانها. ما الّذي يترتّب على هذا الفائض في جموع المصلّين؟ أمور كثيرة:أوّلها أنّ صوت الإمام الواعظ لا يبلغ إلى المصلّين على نحو طبيعيّ، فهو صوت بشريّ يظلّ مهما كان جهوريّا محدود المدى لا يمكنه أن يبلغ إلى عموم النّاس. ولأجل ذلك اضطرّ إلى تسخينه. ولا يعني "التّسخين" رفع درجة حرارة الصّوت حتّى يصاب صاحب الصّوت بالحمّى أو يتّقد حماسا، إنّما يعني "التّسخين" من منظور علم الوسائط أو الوسائطيّة La médiologie أمرا آخر. فالمنطلق هو أنّ التّكنولوجيّات الّتي صارت اليوم تكوّن محيطنا الطّبيعيّ وتشكّله قد أضحت في الآن نفسه امتدادا لحواسّ الإنسان وجهازه العصبيّ، فهي شيء لصيق به كالجلد بالجسم، بل هي جلده الثّاني، أنشئت لتزيد تلك الحواسّ قوّة على قوّة وتضاعف من سرعتها. من ذلك الدّرّاجة ثمّ السيّارة والطّرقات المعبّدة والطّريق السّريعة... كلّها وسائط قد ضاعفت من سرعة الإنسان في التّنقّل، فتضاعف من جرّاء ذلك حجمُ الأخبار المنقولة. هذه الزّيادة في قوّة الحواسّ وسرعتها تسمّى "التّسخين". فكلّ ما يمثّل امتدادا لحواسّ الإنسان نطلق عليه اسم "الوسيط". والوسائط أنواع منها البارد إذا كان كمّ الإخبار المنقول ضعيفا أو محدودا كالصّوت البشريّ فيحتاج إلى مشاركة الآخرين، ومنها الحارّ إذا ضاعفنا من قوّته ومداه بالأبواق ومكبّرات الصّوت. فهذه التّقنيات الصّوتيّة وسائط حارة، قد سخّنت الصّوت، هذا الوسيط الطّبيعيّ البارد، فتضاعف بذلك حجم الأخبار المنقول باتّساع مجال السّماع وتكاثر عدد السّامعين.
وقد استعملت مكبّرات الصّوت في المساجد لغايات تواصليّة كالأذان للصّلاة أو تبليغ صوت الواعظ إلى آخر صفوف المصلّين. وفي الغالب تتجاوز هذه التّقنيات الصّوتيّة مداها فيقتحم الصّوت المسخّن الفضاء العموميّ. وهو اقتحام قد لا نشعر به نحن من نعيش داخل المجتمعات الإسلاميّة، ولكنّه يصبح، خاصّة في ظروف العداء الدّينيّ وفترات التّعصّب، اقتحاما فعليّا للفضاء العموميّ وانتهاكا حقيقيّا له إذا كان المسجد يوجد في بلاد غير إسلاميّة من بلدان أوروبا أو أمريكا المسيحيّة. ورغم ذلك يظلّ هذا "التّسخين" محدود المدى لأنّ معظم المصلّين سواء أكانوا يصلّون داخل المسجد أم خارجه لا يرون وجه الواعظ الخطيب. فما يبلغهم هو صوت يقرأ نصّا مكتوبا، صوت قد تجرّد من جهازه التّلفّظيّ وحرارة العبارة الحيّة. ينبغي أن نذكّر أنّ نسبة هائلة من نجاح الحركات الإسلاميّة بتونس، وهي في طور استقطاب الجماهير في السّبعينات من القرن الماضي، تعود إلى كاريزم الدّعاة والخطباء الوعّاظ وقدرتهم الفائقة على الأداء الخطابيّ في المنابر والدّروس الّتي كانت تُلقى قبل الصّلاة. وبعزل الصّوت عن الصّورة، أي عن وجه الواعظ، وهو الأساس الكاريزميّ الّّذي يجعل قول الواعظ مؤثّرا ناجعا فاعلا ذا قوّة تأثيريّة في النّفوس والوجود، صار المُصلّي خارج المسجد بصفة خاصّة في وضع تلفّظيّ خطابيّ مختلف شبيه بوضع من يسمع المذياع أو الرّاديو، يسمع الواعظ ولا يراه بعد أن كان يسمع الواعظ ويراه. فحضور الصّلاة والمشاركة الجماعيّة في أداء طقوسيتها كانت ترمي قديما إلى توفير الشّروط المثلى للرّؤية الاجتماعيّة. وهي شروط لم يعد بمقدور المساجد اليوم توفيرها. فعزل الصّوت عن الوجه قد فقّر خطاب الوعظ الدّينيّ في المساجد، وهو عزل قد دمّر مقولة الحضور الضّروريّة في تماسك الأساس اللاّهوتيّ الميتافيزيقيّ الّتي ينهض عليها هذا الخطاب الدّينيّ، والخطاب الوعظيّ بصفة خاصّة.ولتخطّي مآزق هذا الوضع الجديد الّذي فرضه تزايد المسلمين الدّيمغرافيّ تحرّك "البزنس الدّينيّ" على مستوى الفضائيّات على نحو بدت آثاره واضحة اليوم في تكاثر القنوات الدّينيّة وتنافسها مثل "اقرأ" و"مجد" و"المنار" وغيرها من القنوات الّتي صارت تنهض بدور قديم بوسائط جديدة هو "تلفزة المسجد". فصرنا نشاهد تلفزيّا ما ظلّ يقوم به المسجد طيلة قرون مديدة إلى اليوم كترتيل القرآن تلفزيّا، وبثّ الأذان تلفزيّا، ونقل الصّلوات الخمس تلفزيّا، وعرض صلاة الجمعة في أكثر من مسجد جامع تلفزيّا، وإلقاء المواعظ تلفزيّا...
ما الّذي ترتّب على كلّ هذا التّحوّل في المستوى الوسائطيّ؟1 ـ أوّل تحوّل تجلّى في تسخين وظيفة المسجد. فقد كان المسجد وإن غصّ بالمصلّين وفاضت أرجاؤه بهم يمثّل منذ نشأته إلى اليوم المؤسّسة الّتي تضمن تلاقي المسلمين اليوميّ، خاصّة المصلّين منهم، فتتحقّق بذلك التّلاقي وظيفة الدّين الأساسيّة (السّياسيّة أيضا) المتمثّلة في تقوية الرّوابط بين المسلمين سواء أكان نوع هذه الروابط صلة رحم أم أخوّة دينيّة أم انتماء مذهبيّا... وبـ"تلفزة المسجد" صارت التّلفزة تمثّل عبر انتشار أجهزتها الوسيط البديل الّذي سخّن وظيفة المسجد.
لنذكر في هذا السّياق أنّ للوسيط وجهين: وجها تقنيّا تمثّله تقنيات صناعة الصّورة وتكنولوجيا بثّها ونقلها إلى المتفرّج المسلم وغير المسلم، ووجها مؤسّساتيّا (نسبة إلى المؤسّسة) يتجلّى في أنّ التّلفزة مؤسّسة يسيّرها فيلق هائل من التّقنيّين والخبراء المتخصّصين في صناعة الصّورة وسياستها وفق المصالح المتحكّمة في اقتصاد المعلومات وسياسة الإخبار.وعلى هذا النّحو يمكن أن نتخيّل حجم القوّة الّذي يتمتّع به وسيط التّلفزة. فمن النّاحية التّقنية لا يختلف اثنان في قوّة التّلفزة التّواصليّة والإبلاغيّة، فهي أقوى بكثير من المسجد، هذه المؤسّسة القديمة الّتي ظهرت في مجال شفويّ بسيط العدّة لم تحتج تقنيّا لإبلاغ صورة الواعظ وصوته وتبليغ خطاب الوعظ الدّينيّ إلاّ لحضور المسلمين. وهو حضور تقتضيه طبيعة الوسيط الباردة. فالمسجد وسيط بارد، لأنّه يحتاج إلى مشاركة من يريد الالتزام بطقوسيته وممارستها. غير أنّ هذا الحضور لم يعد ممكنا في الأزمنة الحديثة لأنّ عدد المسلمين الهائل لا يمكن أن يستوعبه فضاء المسجد المحدود، ولأجل ذلك اضطرّ إلى تسخين وظيفة المسجد بـ"تلفزة المسجد". وعندما يسخّن وسيط بارد فإنّه يحوّر طريقة اشتغاله. فـ"تلفزة المسجد" تقضي على مقولة الحضور، لأنّها لا تحتاج إلى حضور المسلمين، وتقضي في الآن نفسه على كلّ طقوسيّة مرتبطة بحضور المسلمين ومشاركتهم في إنجاز كلّ الطّقوس الّتي لا تمارس إلاّ في فضاء المسجد.
2 ـ لقد انجرّ عن هذا التّسخين بـ"تلفزة المسجد" أمر خطير تمثّل في العصف بوظيفة المسجد الدّينيّة. فمؤسّسة المسجد تشتغل بسنن ترمي إلى جمع أجساد المسلمين ليتلاقوا كما يتلاقون في موسم الحجّ، فتتحقّق بحضورهم الجسديّ في رحاب المسجد أهمّ وظيفة دينيّة هي النّصيحة. فالدّين نصيحة، "إنّما الدّين النّصيحة" كما يقول الحديث. والنّصيحة في معناها الأصلي هي الرّابط من خيوط وسيور. فوظيفة الدّين، أيّ دين، هي جعل المؤمنين كالبنيان المرصوص لا يوحّدهم شيء سوى اسم الله. فالدّين هو الرّابط الّذي يشدّ الفرد إلى جسد الجماعة لأنّ يد الله مع الجماعة. هذه الوظيفة قد اضطلعت بها مؤسّسة المسجد، ولكنّها لمّا سخّنت بـ"تلفزة المسجد" انفجرت تماما لأنّ التّلفزة تتّجه إلى المسلمين فتطرق منازلهم في كلّ زمان ومكان، ولا يتّجهون إليها على غرار المسجد. ونعزو هذا الانفجار إلى شكل الانتشار التّلفزيّ الّذي يقوم على مفهوم الشّبكة réseau (أو شكل الرّيزوم كما حدّده دولوز وغواتاري)، فهي تتّجه إلى كافّة المتفرّجين دون تمييز بينهم. فالتّلفزة تدمّر المنطق الهوّيّ الّذي يستند إليه مفهوم الجماعة الإسلاميّ ويشدّه. فهي لا تجمع المسلمين لأنّها تمنع تجمّعهم. بل هي بدل ذلك تحافظ على شتاتهم بأن تبقيهم في بيوتهم بشدّ أنظارهم إليها. وبذلك يصاب مفهوم الدّين (النّصيحة) ووظيفته (التّلاقي) في الصّميم لأنّ منع التّلاقي وعرقلته يفضيان إلى تعطيل وظيفة الرّبط الدّينيّة. ولكن مقابل ذلك تصنع التّلفزة علاقات من نوع آخر بين المسلمين، ليست دينيّة كالتّلاقي والنّصيحة وإنّما علاقات تواصليّة محض. وهي علاقات تدمّر جوهر الرّسالة الّتي يحكمها منطق تواصليّ من نوع خاصّ.
3 ـ ينهض جوهر كلّ رسالة دينيّة على منطق خاصّ نسمّيه النّقل La transmission. والنّقل غير التّواصل La communication. فإذا كان كلّ نقل تواصلا فإنّ كلّ تواصل ليس بالضّرورة نقلا. فالتّواصل نقل في فضاء محدود بزمان معلوم، بينما النّقل هو تواصل عابر للزّمان والمكان يجري بين أجيال وأجيال. فغاية الرّسالة الدّينيّة هي الدّيمومة في الزّمان والاستمرار عبر نقل الرّسالة والحفاظ عليها جيلا بعد جيل. ويقتضي هذا الضّرب من التّواصل نوعا خاصّا من المؤسّسات كالتّعليم، وقد كان منها المسجد الّذي حافظ على الرّسالة الدّينيّة بصيانتها من كلّ تحريف وتعليمها بنقلها على مدى قرون. بيد أنّه عندما ينقلب النّقل في الزّمان إلى تواصل في المكان محدود بزمان معلوم وموظّف لغايات الاستهلاك التّلفزيّ فإنّ خطاب الوعظ الدّينيّ ينفصل حين يبثّ تلفزيّا عن مؤسّسة المسجد الّتي كانت تتكفّل بنقله في الزّمان عبر الأجيال انفصالا يهيّئه ليتّصل بمؤسّسة أخرى تتكفّل به هي التّلفزة. وهي مؤسّسة لا شغل يشغلها سوى البثّ والتّواصل وإنتاج الصّورة وبيعها واستهلاكها، فهي ضرب من البزنس مادام للصّورة ثمن باهظ، سواء في صناعتها أو في بثّها. وبفقدان هذه الوظيفة الأرشيفيّة تفصل التّلفزة خطاب الوعظ الدّيني عن أرشيفه إذا اعتبرنا الأرشيف مستودع الذّاكرة والتّراث. وليس لهذا الخطاب من أرشيف سوى المسجد، ففي رحابه نشأ، وفي فضائه استمرّ ودام. ويجعل هذا الفصل خطاب الوعظ الدّينيّ مجرّد خطاب لا يصلح إلاّ للتّعبئة والإشباع النّفسيّ وتهييج العواطف وتسكين القلق الرّوحي والتّرويح عن النّفوس. وبانقلاب وظيفة هذا الخطاب بمجرّد انتقاله من مؤسّسة المسجد إلى مؤسّسة التّلفزة تنقلب صورة الواعظ ذاته من صورة الملاك إلى صورة الأبله. فكيف حدث ذلك؟
4 ـ علينا أن نتجنّب الاستعمال السّلبي للفظ أبله، فلا نعدّه في سياقنا هذا شتيمة من الشّتائم. فالاستعمال الشّائع لهذا اللّفظ يعرّف الأبله على أنّه "الّذي لا عقل له" (لسان العرب). أمّا إذا ربطنا هذا اللّفظ بمجال الدّين فإنّنا نجد الرّجل الأبله: " هو الّذي غلب عليه سلامةُ الصّدر وحُسْنُ الظنِّ بالنّاس لأَنهم أَغفَلوا أَمْرَ دنياهم، فجهلوا حِذْقَ التّصرّف فيها وأَقبلوا على آخرتهم فشَغَلوا أَنفسهم بها، فاستحقّوا أَن يكونوا أَكثر أَهل الجنَّة" (لسان العرب). وقد تعرّض الجاحظ (2) لهذا الصّنف من العبّاد والزّهاد فقال فيه " والعبادة لا تُدلِّهُ ولا تُورِثُ البَلَهَ إلاّ لمن آثر الوحدة، وترك معاملة النّاس، ومجالسةَ أهل المعرفة. فمن هنالك صاروا بُلْهًا، حتّى صار لا يجيءُ من أَعْبَدِهم حَاكِمُُ ولا إِمَامُُ ". ويبدو أنّ هذه السّمات المكوّنة للأبله وهي "جهل حذق التّصرّف" و"ترك معاملة النّاس" مازالت سارية إلى اليوم. ففي كتاب "تسريب الرّمل" لخميّس الخيّاطي (3) نجد في معرض الحديث عن الدّعاة الجدد من نجوم التّلفزة في الفضائيّات العربيّة ما يلي: " لا أدري إن كان البعض من الدّعاة التّلفزيّين الإسلاميّين العرب، وهم في ازدياد على الفضائيّات في الأيّام العجاف الّتي نشهد، منّا ويعيشون بيننا، ويتألّمون لآلامنا، يحلمون لأحلامنا، تطأ أقدامهم الأرض الّتي نطأ ويترقّبون مثلنا الرّاتب الّذي قد ذهب أكثر من نصفه قبل أن نستلمه؟ لا أظنّ ذلك بالنّسبة للغالبيّة العظمى منهم. السّبب بسيط وهو أنّه لو كانوا من لحم ودم كعامّة المسلمين العرب الّذين يستهدفون بوعظهم وإرشادهم، بنهيهم وتأنيبهم لعدلوا عن إلقاء وعظهم بالطّريقة الّتي يستعملون والمفردات الّتي ينتقون والحماس الّذي ينفثون..." .
ويبدو من كلّ هذه الأقوال أنّ سمات الأبله لم تتغيّر في الخطابين القديم والحديث. فهو منقطع عن أمر الدّنيا منشغل عنها لا يعرف معاملة النّاس لأنّه لا يعيش بينهم. والدّليل على ذلك أنّه يقدّم في خطابه أجوبة لأسئلة لم يطرحها عليه النّاس لأنّهم ليسوا في حاجة إليها. فهي أجوبة مقطوعة عن واقع النّاس عاجزة عن صناعة خلاصهم أو نجاتهم أو حتّى التّخفيف من ثقل الوجود وأعباء الحياة. وعندما يوضع شخص بلا " لحم ودم " بهذه المواصفات في مؤسّسة كالتّلفزة ليعظ النّاس فإنّه يتّخذ هيئة الملاك، أي صورة من يحمل رسالة إلى النّاس آتية من الغيب. فصورة الواعظ المعروضة في التّلفزة هي في مستواها السّطحيّ المرئيّ المبثوث في القنوات هي صورة ملاك حاملٍ رسالةً، ولكنّها في مستواها العميق هي صورة ملاك بلا رسالة، وهذا بالضّبط تعريف الأبله في سياق الأنتروبولوجيا الفلسفيّة المعاصرة. فالأبله ملاك بلا رسالة، لأسباب كثيرة منها أنّه لم يكلّفه أحد بتبليغ رسالة. وهاهنا يكمن الفرق الجوهريّ بين الواعظ في المسجد والواعظ في التّلفزة.

فالأوّل يعظ لأنّه خطيب إمام، قد فوّضته مؤسّسة المسجد ليتكلّم باسمها ويبثّ في وعظه رسالة كُلّف بحملها وتبليغها لأنّها تخصّ شأن النّاس في دنياهم ودينهم. أمّا الثّاني فلا يتمتّع بصفة الإمام لأنّ الفضاء الّذي يوجد فيه لا يعتني بإنتاج خطاب الوعظ الدّينيّ ولا بطقوسيته الأساسيّة في إنتاج نجاعته الرّمزيّة، وإنّما تنصبّ العناية كلّ العناية بإنتاج صورة الواعظ وإخراجها. وفي هذا السّياق يرسم خميّس الخيّاطي بحذق كبير صورة عمرو خالد بوصفه ممثّلا لأنموذج الواعظ الحديث. يقول في شأنه ما يلي: " إن كان الدّاعية "المودرن" عمرو خالد في برنامج "صنّاع الحياة" من إخراج علي الغول وبرعاية إحدى شركات حفّاظات الأطفال على عادته مكهربا (بكسر الرّاء) وبعينين لامعتين براءة ودهاء، بنطقه الخاصّ لحرف الرّاء، بصوت حادّ كأصوات الأطفال الّذين لم يدخلوا بعد سنّ البلوغ مع حركات مدروسة وابتسامات محكمة وهيئة "دكتورائيّة"، يستنجد بالقرآن والسّنّة في قراءات هي من قبيل "عنزة ولو طارت" فهو على الأقلّ يعرف قواعد الفرجة التّلفزيّة ويطبّقها ببراعة فائقة حتّى يأكل الكتف ويسلب العقل في مسألة تعليم المعلوماتيّة لعامّة مريديه، فإنّ هناك على هذه القناة الممتعة "بإعلام هادف" من لا يعرف التّلفزة كوسيلة اتّصال جماهيريّ، ولا الحياة اليوميّة ولا حتّى الرّأفة والرّحمة بمن يشتكي من مشاقّ الحياة ويطلب النّجدة."(4). يتّضح من هذا المثال تركيز التّلفزة على الواعظ لا على خطابه، بينما يكون الواعظ في المسجد في خدمة الخطاب وجزءا مكوّنا لجهازه التّلفّظيّ وعنصرا من شعائر طقوسه. وعندما يركّز على الواعظ فقط يفقد خطاب الوعظ نجاعته الدّينيّة، أي هذه القدرة على جمع النّاس وربطهم، فيصبح جزءا من الصّورة الّتي تعتني بصناعة الفرجة أكثر من اعتنائها بنجاعة الخطاب الرّمزيّة. فصورة الواعظ هي الّتي تطغى وتهيمن بحيث يصبح الخطاب وقد تجرّد من كلّ طقوسيّة عنصرا مساهما من بين عناصر أخرى في صناعة صورة الواعظ وهالته. فالصّورة تلفت الأنظار إليها دائما على نحو يصدّ كلّ اهتمام بمضمون آخر غير ما تبذله للفرجة. وبذلك ينقلب الواعظ إلى رسول بلا رسالة، لأنّه حين ينقلب إلى صورة مبثوثة في التّلفزة يضحي بدوره رسالة بلا رسول عائمة في فضاء الفضائيات.


العادل خضر أستاذ وباحث جامعيّ بكلّية الآداب والفنون والإنسانيّات بمنّوبة، تونس

(1) أصل مَلَك هو مَأْلَك، وقد أخذ من لفظ الألوكة، وهي الرّسالة، بينما تعني كلمة Ange ، angelos في الإغريقيّة، الرّسول أو حامل الرّسالة messager. (2) البيان والتّبيين، مجلّد 2، ص.349-350.(3) خيّاطي، خميّس: تسريب الرّمل. الخطاب السّلفي في الفضائيّات العربيّة. تقديم الفاضل الجعايبي، قراءة عادل الحاج سالم، دار سحر للنّشر، تونس، الطّبعة الأولى، 2006، ص130(4) خيّاطي، خميّس: تسريب الرّمل، م.م، ص132.