mardi 11 septembre 2012

أوصيكم بالليل خيرا، أمّا أنا فسأتبع الشمس حيثما تذهب

أوصيكم بالليل خيرا، أمّا أنا فسأتبع الشمس حيثما تذهب
صحراء ما بين توزر ونفطة: سبتمبر 2012
تصوير: طارق الغزال

samedi 1 septembre 2012

الثقافة العربية والعطب اللسانيّ: أرض واحدة ولسانان


الثقافة العربيّة والعطب الكلاميّ:
أرض واحدة ولسانان


في مساء يوم الأحد 20 أيّار مايو 2012 حطت الطائرة في مطار بيروت الدولي. لم تكن الرحلة من تونس إلى بيروت ممتعة كما توقعناها، بل كانت مملّة ومضنية. لم نحتسب كم دامت مدتها ولكنها لم تتجاوز الثلاث ساعاتٍ في أقصى تقدير. الجوّ في السماء كان مغيّما فحجب عنا الرؤية أغلب الوقت. لم ندرِ هل هو سحاب ممطر أم ضباب كثيف، وهو لم يَصْفُ لنا إلا في سماء اليونان، فأصبحنا نرى جُزُرَه تحسبها هامدةً وهي تمرّ تحتنا على عجلٍ كأنها سفُنٌ في سباق.
المسافرون أوّلَ مرّة إلى لبنانَ – مثلي- لا يهدأ لهم بالٌ. يتدافعون أمام النوافذ القليلة ليتأمّلوا منظر الجزُر وهي تميد من خلال الغمام. يسترقون الصورَ باستخدام هواتفهم المحمولة رغم دعوات الطاقم المتكررة لإقفالها. الطائرة من حين لآخر تهتزّ وترتجّ، وباهتزازها وارتجاجها تضطرب الأيادي الحاملةُ لآلات التصوير فتأتي الصورةُ ضبابيّةً لا تروق للمصوّر فيعيد الكرّة حتى يظفرَ بما يعجبه.
بسبب الاهتزازات المتكررة، تهيّأ لي أنّني لا أركب طائرة بل أركب الحافلة الصفراء التابعة لشركة النقل العمومي بتونس، لا سيّما تلك التي تقلّني من وسط تونس العاصمة إلى مقرّ عملي بحي سيدي حسين السيجومي. كما تهيّأ لي أيضا أنّ جزر اليونان المتناثرة هي تلك النتوءات والحفر التي تتوزع بكل عشوائية في طريق سيدي حسين بسبب الأشغال التي لا تنتهي على مرّ السنة، فتكون سببا للاهتزاز المتواصل طوال الرحلة.
بعد أن انتهت حملة التصوير الجماعي، ركنَ كلٌّ إلى مقعده ثم خلدوا إلى النوم كافّةً، فلم يتفطّنوا إلى مرور جزيرة قبرص، صرحا عظيما شامخا بأرضها البنّيّة ومبانيها البيضاء التي لا تكاد تُرى. وإذا كانت العين المجرَّدة قادرة تمام القدرة على التمييز بين الجبال والسهول والمباني، فإنّي لا أظنها قادرةً على التمييز بين جزئها التركي وجزئها اليوناني إلا لمن يعرفها من قبلُ. جزيرة واحدة وشعبان مختلفان، أرض واحدة ولسانان متباينان. الجغرافيا تُوحّد والتاريخ يقسّم ويُحكم الفواصلَ والحدودَ. إنّ الناظرَ من فوق لا يرى إلا الوحدةَ والانسجامَ. الوحدةُ لا يمكن رؤيتها إلا إذا كنّا في السماء، لأنّ القابع في سمائه لا علم له بالجزئيات والتفاصيل، فإذا نزلَ تصدّع كلُّ شيء أمامه وتشتّت وتبعثر...
السماء هي مصدر التوحيد...
مطار بيروت الدولي يبدو خاليا إلا من أعوان الديوانة وموظفيها. استقبلونا استقبالا جيّدا فلم نتعطّل لحظة. مررنا مباشرة إلى الضفة الأخرى، إلى القاعة الكبيرة التي منها نخرج إلى الشارع. الهاتف المحمول يرنّ معلنا وصول إرسالية SMS باللغة الفرنسية: "اتصالات تونس ترحب بكم وتتمنّى لكم سفرة مريحة، كما تعلمكم أنه بإمكانكم الاتصال حيث كنتم بفضل خدمة Remaining، وذلك بسعر كذا الدقيقة". تذكّرت آنذاك أنه عليّ الاتصال بجهتين: بتونس حيث العائلة تريد أن تطمئنّ على وصولي إلى بيروت، ثم بصديقي اللبناني: "سمير" الذي كتب إليّ رسالة على الفيسبوك فورَ سماعه قبل أسبوع بخبر قدومي قائلا باللهجة اللبنانية:
-          ناطرك بس توصل لبيروت احكيني على الرقم: كذا وكذا. أنا بمدينة صيدا: 25 دقيقة من بيروت.
حاولت الاتصال بالجهتيْن لكن لم أتمكن من ذلك. المشكلة ذاتها مع المجموعة التونسية التي معي، الاتصال غير ممكن، لا بتونس ولا بلبنان. سألنا عن سبب المشكلة فأفادنا اللبنانيون الموجودون بالمطار بأنّ تقنية Remaining لا تشتغل بلبنان. الحلّ الثاني هو اقتناء خطّ لبناني لاستعماله مدّة الأسبوع الذي سنقضيه هنا. لكنّنا فوجئنا بأنّ سعرَه حوالي 50 دولارا، وهو سعر مرتفع جدا.
سألنا:
-          هل من مركز اتصال عمومي في المطار أو في مكان قريب منه؟
أجابونا:
-          مراكز الاتصال في لبنان تشتغل بالبطاقات لا بالقطع النقدية. والبطاقات مفقودة لأنّ صاحب الشركة المروجة لها في خلاف مع وزير الاتصالات منذ مدة...
خلاف بين مسؤوليْن يقطع حبال الاتصال بين الناس.
تذكّرت حكاية رواها لي أحد الأقارب عندما ذهب للاشتغال في بلد افريقي، حيث أراد عند وصوله شراء خطّ هاتفي جوّال فوجد شركتيْن: إحداهما وطنيّة والأخرى خاصة، فآثر الوطنية. بعد ذلك اكتشف أنه لا يمكنه الاتصال إلا بأمثاله المشتركين بالوطنية، وأنّه لا يستطيع أن يتّصل بأصدقائه من المشتركين بالشركة الخاصة المنافسة. ولمّا سأل عن سبب ذلك قيل له إنّ الشركتيْن في خلاف أمام المحاكم، مما أدّى إلى انقطاع قنوات الاتصال بينهما، وبذلك انقسم الناسُ في ذلك البلدِ إلى فئتيْن: "وطنيّون" و"غير وطنيّين"،تتكلّم الفئة الأولى كلاما فلا تسمعه الفئة الثانية، وهذه الأخيرة لا تسمع كلام الأولى. لو لم يكن لسانهم واحدا لقلنا: يتكلّم "الوطنيّون" لسانا لا يفهمه "غيرُ الوطنيّين"، ويتكلّم "غيرُ الوطنيّين" لسانا آخرَ لا يفهمه "الوطنيّون":  أرض واحدة ولسانان مختلفان.
لا وجود لساعة حائطية في غرفة فندق "الكومودور" ببيروت لأعرف حدود الزمن بعد أن توقّفت ساعتي اليدوية عن العمل، وبعد أن اختلطت عليّ الأزمنة من تونس إلى بيروت. التجأتُ إلى الهاتف المحمول فإذا به يشير إلى الساعة الثالثة بعد الزوال بتوقيت تونس، أي الرابعة بتوقيت لبنان. لم تعد للهاتف المحمول وظائفُ هامة بعد أن فقد وظيفتَه الأساسية وهي الاتصال. أصبحت له وظائف ثانوية كتحديد الوقت والتقاط الصور ذات الجودة الهابطة وبعض الألعاب البدائيّة التي لا تعنيني... كنت منصرفا إلى اكتشاف محتويات الغرفة وتحسّس المكان الجديد، فإذا بهاتف الغرفة يرنّ بصوت لا يكاد يُسمع.
-          أهلين. كيفك؟ مليح؟ كيف كانت الرحلة؟
-          أهلا "سمير"، الحمد لله، يعيّشك، انت فين؟
اعتقدتُ أنّه ينتظرني في قاعة الاستقبال لأنّه على علم من قبلُ بالفندق الذي سأقيم فيه.
-          أنا في صيدا. لم أستطع القدوم إلى بيروت لأنّو فيه كتير طرقات مقطوعة احتجاجا على عملية الاغتيال.
-          اغتيال من؟
-          إذا فيه عندك تلفزيون بالغرفة شغلو وشوف الأخبار.
معظم القنوات التلفزية اللبنانية موجودة في تلفزيون الغرفة. قناة "المستقبل"، لسان حال تيّار المستقبل بزعامة آل الحريري، تنقل خطابا شبه تحريضيّ على لسان مقدمة الأخبار. فهمت أنّ الشخصيّة التي وقع اغتيالُها تابعة لتيّار المستقبل و قوى "14 آذار".
قناة "الجديد" تنقل رأي أحد المحلّلين السياسيّين، وفي شريط أخبارها أسفل الشاشة: "مقتل إمام مسجد البيرة الشيخ أحمد عبد الواحد ومرافقه على يد عناصر من الجيش اللبناني عند حاجز بلدة الكويخات أثناء توجهه إلى ساحة حلبا للمشاركة في اعتصام لجنة ضحايا 7 أيار التابعة للنائب خالد الضاهر من تيار المستقبل".
هناك روايتان تخفيان قراءتيْن مختلفتيْن لما وقع: رواية تيار المستقبل وقوى "14 آذار" عامة التي تضمّ معظم الطوائف السنّيّة وبعض المسيحيّين (المعارضة): تقول إنّ ضابط الجيش في الحاجز أمر الشيخ عبد الواحد بالنزول من السيارة فرفض ثم قرّر قيادة السيارة بنفسه وأراد أن يرجع من حيث أتى، ولدى محاولته قيادة السيارة بادرت عناصر الجيش بإطلاق النار بغزارة مما أدى إلى مقتله ومرافقه.
رواية قوى "8 آذار" (السلطة) التي تضمّ معظم الطوائف الشيعية (ممثلة أساسا في حزب الله) وبعض المسيحيين، وهي القوى التي لا تخفي تحالفها مع سوريا وإيران وتتبنّى خط مقاومة العدو الإسرائيلي والمشروع الامريكي في الشرق الأوسط عامة: تقول إنّ موكب الشيخ رفض التفتيش رغم حمله لسلاح غير مرخص له، وإنه تجاوز الحاجز العسكري فأطلق الجنود الرصاص في الهواء لتنبييهه، فردّ موكب الشيخ بإطلاق النار تجاه الجنود فردّوا بدورهم بكثافة مما أدّى إلى ما حصل في النهاية.
حادثة واحدة وروايتان... أرض واحدة ولسانان.
المهمّ أنّ الشيخ حاول الانتقال من مكان إلى مكان داخل البلد الواحد، فكان ثمن انتقاله حياته ودماء تسيل. ثمّ لمّا قُتل ثارت شيعتُه وغضبت واحتجّت وعبّرت عن احتجاجها بحرق الإطارات المطاطية وقطع الطرقات أمام كلّ من يريد التنقّلَ من الجنوب إلى الشمال، ومنهم صديقي "سمير".
عندما نستمع إلى الروايتيْن بكلّ تفاصيلهما، لن نجدَ إلا سردا لوقائعَ وأحداثٍ. لا وجود لأقوال وحوار. لا نعرف ماذا قال الشيخ عبد الواحد لضبّاط الحاجز ، كما لا نعرف ما قاله الضباط للشيخ. مضمون المحادثة التي جرت بين الطرفيْن تبدو مفقودة. لكنّنا نجزم أنّها، وإن وجدت فهي خالية من المعنى، لأنّ لكل طرف لسانا مختلفا عن لسان الآخر، ومن الطبيعيّ إذن أن يُعوّضَ الحوار الكلاميّ بحوار الرصاص المتبادل. فإذا كانت كلّ فئة تتحدّث لسانا لا تفهمه الفئة الثانية فلا معنى لقنوات الاتصال. ما حاجتنا إلى مدّ طريق تربط بيننا إذا كان الواحد منّا لا يفهم ما يقوله الطرف الآخر؟ لا فائدة في وجود طريق، الحواجز العسكرية والمطاطية أولى بها، ما دام الذي يسكن في الضفة الأخرى لا يفهم لغتي ولا يتعامل بعُملتي. وإن وُجدت تلك الطريق في هذه الحالة فهي لن تؤدّيَ إلا إلى العدم، إلى الرصاص والدماء. الطرقات لا تربط إلا بين أصحاب اللسان الواحد. والحواجز لا تسمح بالمرور إلا لمن يتكلّم لغتها.
قال ميشيل عون، عدو  النظام السوري بالأمس، حليفه اليوم، معلقا على دعوات سحب الجيش من الحواجز: "من طالب بسحب الجيش بدّو سحب لسانه"، فاللسان هو سبب البليّة حسب "عون". وقد يكون سحب اللّسان عقابا طبيعيّا لمن لا يتكلّم لغتنا، أو لمن يُصرّ على استخدام لغة أخرى دون لغتنا، فيكون الجزاء آنئذ منعَه من الكلام كلّيّةً، وهذا ما وقع في الحقيقة للشيخ، وإن بطريقة القتل، لأنّ القتل هو طريقة من طرائق سحب اللسان ومنع الكلام.
صباح يوم الاثنين 21 أيّار مايو 2012، جريدة "السفير" الموالية لقوى "8 آذار" في صفحتها الأولى تورد عنوانا كبيرا بعيدا عن الحياد: "عكّار مع الجيش في مواجهة الفتنة.. بالحقيقة" وبجانبه صورة بالألوان لجنديّيْن لبنانيّيْن بلباسهما العسكري رافعيْن رأسيْهما بكلّ اعتزاز وغير بعيد عنهما سيّارة الشيخ المقتول (Range Rover) وقد هُشّم بلورها الخلفي. لسان حال الجنديّيْن يقول: "هذا جزاء كلّ من تسوّل له نفسُه اختراقَ حواجزنا وحدودنا، هذا جزاء كلّ من يريد التكلّم بغير لساننا". وفي عموده "على الطريق" - على الصفحة الأولى أيضا- يكتب "طلال سلمان" كلاما مقتضبا يلخّص فيه الحال في لبنان قائلا: "في لبنان دويلات كثيرة ولا دولة، وطوائف كثيرة وقليل من الدّين، وسلاح كثير ولكنّ أقلَّه بيد الجيش، وميليشيات كثيرة تتولّى إدارة السلطة من خارج الشرعية". صورة أخرى في الصفحة الرابعة حيث التفاصيل، لكنّها صورة بالأسود والأبيض، تظهر عمامة الشيخ السوداء (وهي حمراء في الأصل) المحاطة بقماش أبيض ملقاة على الكرسي الخلفي داخل السيارة وبجانبها آثار الدماء وحطام البلّور المتناثر.
حكاية لبنان مع اللون الأحمر ليست حكاية عاديّة، ولا أحسبها تكون مصادفةً، واجهة مطعم "طورس" ببيروت الذي قضينا فيه معظم السهرات تكاد حمرتها تضيء الطريق، فهي "أمثال النجوم في الليل البهيم" كما وصفها عيسى بن هشام في المقامة الخمريّة. وهو مطعم يقع في منطقة "الحمرا" بالعاصمة، ويرتاده النقابيّون والفنانون الثائرون وشباب الحزب الشيوعي اللبناني الذين يتخذون من اللون الأحمر شعارا لهم. معظم الأشياء التي تحيط بنا في داخل المطعم حمراء مثل عمامة الشيخ عبد الواحد ودمائه: أغلفة الكراسي.. الأضواء الداخلية الخافتة.. الثياب التي ترتديها "صوفية" المغربيّة.. قطع "البندورة" (الطماطم) التي أحكمت تلميعَها شمسُ "رأس بعلبك" الحارقة.. زجاجة نبيذ "الكسارى" التي أقبل عليها صديقنا "فوّاز" الفلسطيني بكلّ نهم.. صحون "السجق" المضمّخ بصلصة الرمّان.. خدود "لاميتا" التي بقيت مورّدة طيلة السهرات حتّى تساءل أحد الإخوة العراقيين الذين معنا: لماذا تحمرّ خدود دون أخرى؟
يعود الفضلُ في جمعنا وتآلفنا في هذا المطعم إلى "كارمل"، الفتاة اللبنانية التي تشارك معنا في الدورة التكوينية رفقة شباب من مختلف الدول العربية، فهي التي تتعهّد كلَّ يوم بتنظيم جلساتنا وتوجيهنا إلى الأماكن التي لا نعرفها، وهذا هو مكانها المفضّل، وقد نال إعجابنا جميعا. هي لا تُخفي انتماءها إلى الحزب الشيوعي اللبناني الذي تعتبره من بين الأحزاب اللبنانية القليلة التي لا تقوم على أساس طائفي. الكلّ في هذا المكان يلعن الطائفية ومن تسبّب فيها ويتمنّى إسقاطها مثلما أسقط التونسيّون نظام "بن علي"، أغاني زياد الرحباني التي يرددونها كلّ ليلة هنا ويرقصون "الدبكة" على أنغامها تشهد على ذلك. تعرّفنا إلى كثير من أصدقائها وزملائها في الحزب، حدّثونا طويلا عن مشاغلهم وتطلّعاتهم وأحلامهم. وهم في النهاية غير راضين على انقسام اللبنانيّين إلى صنفيْن لا يتكلّمان لغة واحدة: جماعة 14 وجماعة 8. هم بصدد البحث عن لسان موحّد.
هناك اختلاف كبير بين الشباب الشيوعي اللبناني والشباب الشيوعي في تونس: إذا دخلت في نقاش مع شاب شيوعي تونسي فإنّك تخرج منه عادةً بكثير من آلام الرأس ودون نتيجة واضحة. أمّا الشاب الشيوعي اللبناني فإنّ الحديث معه كثيرُ الفائدة، وحاسة السمع عنده أقوى، بحيث لا يجد حرجا إذا وجّهت له النقد، حتّى إن قلتَ له إنّ الشيوعية قد ماتت. حتى مقاهي الشيوعيّين في تونس كثيرة الصخب، فإذا أردتَ أن يسمعَك جليسُك عليك بالصراخ وتقريب فمك من أذنه، وإن لم تفعلْ ذلك لن تغنمَ شيئا.
خلاصة القول: لا نفهمُ لسانَ الشيوعيّ التونسي.
لم يتبقَّ لنا غيرُ يوميْن في لبنان. لم أُرِدْ أن أترُكَ لبنان دون أن أزورَ جبران خليل جبران الراقد في ديره بـ"بشرّي". لقد أحرجْتُ صديقي "سمير" وقرّرنا تخصيصَ يوم أو بعضَ يوم للانتقال إلى هناك بالسيارة رغم الاضطرابات في طرابلس والتوتّر القائم هناك بين الشباب العلوي والشباب السنّي على خلفيّة الثورة السورية. قال لي إنّنا سنسلُك طريقا جبليّا يمرّ عبر القرى وغابات الأرز وحقول الكرم والتفاح. فكرة جيّدة: نهرب من التوتر السياسي والطائفي إلى أحضان الطبيعة تماما مثلما كان يفعل جبران. لكن رغم ذلك لا بد من المرور عبر الحاجز العسكريّ لكي ندخلَ محافظة "الشمال". سنخوض إذن تجربة الشيخ عبد الواحد للمرور إلى الضفة الأخرى. كنّا نعرف أنّنا سنخوضها بسلام. فنحن لم نكنْ إزاء مغامرة، لأنّنا لا نذهب من أجل المشاركة في اعتصام سياسي ولا من أجل تأجيج الفتنة بين الطوائف. نحن دعاة سلام نحذق كلّ الألسنة واللغات، وهذا ما تفطّن إليه جنود الحاجز فأشار إلينا كبيرُهم من بعيد بالمرور. لم نتوقّف لحظة واحدة، لقد كان اسمُ جبران مكتوبا على جباهنا بأحرف كبيرة، وكان ذلك بمثابة التأشيرة التي بواسطتها تمكّنّا من عبور الحاجز.
روى لي "سمير" حكاية يتداولها كثير من اللبنانيّين تتحدّث عن بعض ما جدّ أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان من ممارسات وحشيّة قامت بها بعض القوى اللبنانية (لا فائدة في ذكر اسمها) ضدّ الفلسطينيّين. الحكاية معبّرة وإن كانت تحتوي على بعض عناصر الخيال السردي. يُروى- والعهدة على من روى- أنّ الفلسطيني الذي يريد أن يمرّ من بعض الحواجز التي تسيطر عليها تلك الميليشيات يخفي هويّته الفلسطينية ويتقمّص الهوية اللبنانية حتّى ينجوَ بنفسه. عندئذ يلتجئ الميليشيوي إلى أن يُريَه بندورة واحدة ويسأله: ما هذه؟ فإن قال: "بنَدورة" (بفتح النون) عرف أنه لبناني فيخلي سبيله. وإن قال: "بنْدورة" (بتسكين النون) لم يشكوا في أنه فلسطيني ويطلقون عليه النار بكلّ وحشيّة، لأنّ اللهجة الفلسطينية تسمّي البندورة هكذا.
قُتل الفلسطيني ومُنع بذلك نهائيًّا من اجتياز الحاجز لأنّ لسانه ليس كلسانهم.
الطائرة الآن فوق البحر الأبيض المتوسط في اتجاه العودة إلى تونس. جزيرة قبرص ينبعث منها ما يشبه الدخان. لونه يميل إلى الحمرة. لا أرى مصدره لأنّني الآن في السماء. لكنّني أعلم جيّدا أنّها قبرص. جزيرة واحدة وشعبان مختلفان، أرض واحدة ولسانان متباينان، وعمّا قريب تحمرّ فيها البندورة وعناقيد الكرم فتصبح كلون الحزب الشيوعي وعمامة الشيخ ودمائه ودماء الفلسطيني عاثر اللسان وخدود "لاميتا" المحيّرة...

مزار بن حسن

hmazar2001@yahoo.fr
جريدة القدس العربي: 01 سبتمبر 2012