samedi 2 août 2014

Ghaza bombing By Mahmoud Ashkanani


Ghaza bombing
Acrylic on canvas 400 X 120 cm
Mahmoud Ashkanani

lundi 15 juillet 2013

الملح بموّت، والسكّر كمان

الملح بموّت، والسكّر كمان

حسان العوض

عندما دخل أبو عزو داره حاملاً الخبز في يسراه، وكيسي ملح وسكر في يمناه.. كانت زوجته -كما هي العادة منذ زوجّا ابنهما الصغير- قد انتهت للتو من إعداد الفطور، وجلست بانتظاره. وعندما استغربت من إحضاره سكراً وملحاً، قال لها:
بشان لما قلّك جيبيلي سكر أو ملح ما تتحجّجي وتقولي خلصوا.
ابتسمت أم عزو، وقالت:
يا رجّال، أنت عندك سكر وضغط، والملح بيرفع الضغط، يعني الملح بموّت، والسكر كمان.. ما هيك قلّك الدكتور؟
لم يكن أبو عزو يصيخ السمع إلى محاضرتها التي تسمعه إياها يومياً عدة مرات، بل كان يتذوق الشاي والبيض المسلوق ثم قال:
الشاي سكرو مزبوط، بس البيض ناقصو ملح. روحي عالمطبخ، ودّي الكيسين، وحطّي شوية ملح بالمملحة.
حاولت أن تتملص قائلة:
المطبخ بعيد، ورجليّ وجعوني من الروحة والجية.
معليش المشي رياضة، ما هيك أنت بتقولي؟
عندما وقفت أم عزو، كان ثمة ضابط في مكان ما قد انتهى من وضع السكر على كأس المتة، وأمر جندياً بتسخين الإبريق، وأمر آخر بإطلاق القذيفة التي وصلت تماماً المطبخ في نفس اللحظة التي سكبت فيها أم عزو آخر ذرة ملح في المملحة.
-2-
ثلاثة أيام قضاها أبو عزو مرغماً في بيت ابنه الكبير حيث أقيمت مراسم العزاء.. لم ينطق خلالها إلا عندما يردّ على معزيه بجملة واحدة فقط ‘الملح بموّت’.. في اليوم الرابع ذهب أبو عزو إلى بيته في غفلة من الجميع.. لم يحمل معه خبزاً ولا ملحاً ولا سكراً، ولم تكن زوجته بانتظاره.. وقف على أطلال المطبخ يبكي زوجته، ويردد: ‘سامحينني.. أنا السبب.. قلتيلي الملح بموّت.. بس ما فهمت’.. وبعد أن هدأ قليلاً لاحظ رتلاً من النمل يحمل ذرات بيضاء، أدرك أنها سكر في نفس اللحظة التي رشف فيها الضابط كأسه بعد أن أعطى أمراً بالإطلاق.
-3-
-4-
-…..-
*استشهدت شمسة عثمان بتاريخ 24/9/2012 واستشهد زوجها سليم عز الدين بتاريخ 6/10/2012

حتى لا تُبتسر الحياة في حكاية لا تعني أي شيء، يقصّها بحماس دافئ رجل أبله.

مع مرور كل ساعة، لا يوجد شيء اسمه لاحقا، فالمنظور يُصنع الآن"
كورمك مكّاركي، الطريق.


هل لما نحياه اليوم من مدلول يُتقصى؟ ذلك هو السؤال الذي سنضطر إلى طرحه بالضرورة إزاء التاريخ في اتصاله بالإنسانية أو بمجتمع بعينه أو حتى بسيرنا الفردية. فضمن حوار مسرحي معروف يدفع شكسبير ببطل روايته "ماكبث" إلى القول بـ"أن الحياة ليست سوى ظل يتحرك...وخرافة لا تعني أي شيء، يقصّها بحماس دافئ رجل أبله." (الفصل الخامس - المشهد الخامس ). فهل كان "ماكبث" على حق، أم أن للتاريخ مدلول بوسعنا فكّ شفرته وفهمه؟
إن الانشغال بالماضي يحملنا ضرورة على طرح هذا التساؤل، كما هو يدفعنا إلى الاستفهام حول علاقتنا بالزمان تحديدا. فقد أبدى الفلاسفة والمؤرخون منذ القدم اهتماما بالغا بهذا النوع من الأسئلة التي قد تُسعف الإجابة عنها في تعقّل موقعنا ضمن نظام الكون. ونقترح ضمن هذا الإطار قراءة متأنية لثلاثة أعمال صدرت حديثا، قدمت لنا وجهات نظر متقاطعة، من شأنها أن تتيح تعميق التفكير والحوار أيضا بخصوص موضوع محوري يتصل بالانقلاب الكليّ الذي عاينه فهمنا للتاريخ حاضرا.*
فإزاء التحولات الاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية والجيوسياسية المتسارعة التي تعصف بالعالم، يبدو نسق حياتنا الجماعية كما الشخصية وكأنه يعاين عملية تسريع نسق مشوبة بحالة من الذهول إزاء ألاف الكوارث التي تترصد سلامة حياتنا اليومية.  "فسرعة النسق توازيها شدة الذهول، والتحوّل يرافقه إحساس بالجمود، حيث تبدو المجتمعات المعاصرة لناظرها ساكنة ومتقلّبة في آن".
ذلك ما احتفظت به "مريام روفو دالونّيس Myriam Revault d’Allonnes" ضمن مؤلَفها "الأزمة التي لا نهاية لها: مقاربة حول التجربة الحديثة للزمن La Crise sans fin : Essai sur l’expérience moderne du temps ". لا شك في أن علاقتنا بالزمان وبالتاريخ - بما في ذلك تاريخ سيرنا الفردية - قد عاينت العديد من التحولات على مرّ العصور، وهو أمر أثبته فرنسوى هارطوغ François Hartog المؤرخ المتخصّص في تاريخ اليونان القديم وفي مناهج صناعة الخبر أيضا، ضمن مؤلفه "الإيمانبالتاريخ Croire en l’histoire"، معتبرا أن مناهج تلك الصناعة تتساوق مع حاضر يتسم بالديمومة، أطلق عليه تسمية" الحاضريّةprésentisme".

يعمّق هارطوغ التفكير حول هذه التصوّرات التي سبق له وأن تعرّض لها بكثير من التمحيص ضمن واحد من مؤلفاته حول التاريخ والزمنية نشر سنة 2003 تحت عنوان "الأنظمة التاريخانية: الحاضِريّة والتجارب المتصلة بالزمن  Les régimes d’historisité : présentisme et expériences du temps ". فقد تم المرور خلال القرن الثامن عشر من نظام قديم إلى نظام محدث للتاريخانية. واتسم النظام الأول برؤية تعتقد في قدرة الماضي على تفسير الحاضر بل والإشعاع بأنواره عليه"، في حين يبدو النظام المُحدث للتاريخانية "متمركزا حول المستقبل الذي أضحى ينير الماضي ويوضّح طريق الفعل أو العمل". ينبثق نظام التاريخنية المحدثة من انطباع الإيمان بالتقدم في المسار الزمني لقرن الأنوار، علما أن نهاية القرن العشرين قد شكّلت إعلانا عن وفاة ذلك الاعتقاد في المسار الخطي للتقدم البشري. وهكذا فإن ضبابية المستقبل لم يعد من الممكن التعويل عليها في توضيح "سبيل الفعل"، لذلك أضحت البشرية مطوقة بحاضر مستديم ليس بوسع لا الماضي ولا المستقبل إنارته. "فعندما كان لا يعترينا شك في حتمية التقدّم، كان ما يخُطّه المؤرخ ينير منجز البشرية ويسمح عبر تملي ما أقدمت على تحقيقه فعليّا في الواقع، غير أنه لم يعد من الممكن التعويل على هذا النظام المخصوص في صناعة الخبر(...)، بعد أن وقعنا بالكامل في حبال حاضر غلبت عليه "حاضريتة"، فأضحينا نجد صعوبة جمّة في التعرّف بدقة على التحولات الجنونية التي يعاينها العالم. فما كان مقرّبا من ذاتنا ماضيا يبدو اليوم لنا متلبسا بغربة مبهمة، هي ذات تلك الغربة أو الغيرية المؤلوفة لدى صنّاع الخبر التاريخي في تعقّبهم لبصمات الماضي".
يستوحي كل من "مريام روفو دالونيس" و"فرنسوى هارطوغ" تصوراتهما من التوجهات التي قادت المؤرخ الألماني رينهارد كوسلاك Reinhard Koselleck بخصوص ظهور مثل هذه "الحاضرية" ودورها الحاسم في قلب تمثلنا للزمن الحاضر. فبين مجال التجربة المنجزة في الماضي وأفق الانتظار المتصل بالمستقبل، توجد حالة من التجاذب القوي وفقا لعبارة كوسلاك، حيث يسهم التطوّر التكنولوجي في تعميق المسافة بين الوضعيتين، مُفكّكا الرابطة بين أشكال الزمنية الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)، محيلا على حاضر متّسق لا مكان فيه لأي رجاء. مما ينهض حجة على أن تسارع نسق التطوّر التكنولوجي هو المتسبّب وبشكل عكسي في القضاء على كل أمل في تحقيق ما هو منظور من التقدم.

يحلل الفيلسوف فرانك فيشباخ Franck Fischbach من ناحيته وضمن مؤلفه "الحرمان من العالم La privation de monde" وعبر توجه آخر يتقصّى فلسفة الاقتصاد، "الحاضر المستديم أي اللازمنية واللا تاريخية"، من خلال وصلهما بمدلول التقدّم التكنولوجي. فقد أثّرت إعادة القراءة التي اقترحها للنظريات الفلسفية التي صاغها ماركس وهيدجير في نظرتنا للعلاقة التي تصلنا بالزمن من زاوية إعادة توضيح ما يربطه بالمجال المعولم تخصيصا. حيث ما انفكّ التوسع المطّرد للعولمة يلغي المسافات ويجعل البعيد على غرار القريب في متناولنا، مما يؤثر قطعا وبشكل لافت على طبيعة علاقتنا بالزمن. "فإنتاج حيّز مجالي تتقلص ضمنه المسافات تدريجيا يولّد بالضرورة إنتاج زمنية تتسم بسيطرة الحاضر. وبما أنه ليس بوسعنا أن نلغي المسافات دون أن نراجع في العمق فهمنا لمدلول الزمن أيضا"، يجد هذا التضييق المستديم للأفقين المجالي والزمني منطلقه ضمن هذه الحركة المزدوجة والمتعارضة التي تسجننا في بوتقة حاضر أزلي. فمن ناحية لا يمكن لنا أن نتجاهل النمو المتواصل – الذي تعكسه التحولّات التكنولوجية المتسارعة والتي غالبا ما نصلها بمدلول للتقدم غير قابل للتعريف الدقيق – وفي جانب مقابل يحيل سجل القيم الاقتصادية على الأسس الثابتة للنظام الرأسمالي. "
وهكذا يصبح لدينا دفق زمني موصول يتسم غالبا بتقدم غير قابل للتعريف، توازيه حالة من انعدم الحراك تتعلق بالحاضر المؤبد للقيمة" أي لمجال الضابط أو الرادع الاجتماعي. وهو ما يؤدى بالتدرج إلى "تشكيل صورة لمجتمع تغلب عليها السكونية وتدفعه حالة من الإكراه الداخلي الذي يعجز عن صده إلى إعادة إنتاج نفسه على نفس الهيئة وبشكل مستديم (...) توازي تلك الصورة ومن جانب مقابل صورة عكسية لمجتمع يعيش وضعية تحول تكنولوجي موصول"، متأرجحا بين مزيج من التاريخانية والسكونية".
وهكذا نجد أنفسنا إزاء "زمنية تتخذ شكلا ثنائي لحاضر يتسم بالإكراه يتخذ شكل الضابط الذي ليس بوسعنا الفكاك منه، وشكل الدفق الزمني للتقدم التراكمي غير القابل للتعريف الذي لا نستطيع مغالبته"، والذي يعتبره فرنك فيشباخ انعكاسا للشكل المعاصر لتبعيتنا للنظام الاقتصادي الرأسمالي السائد.
تُنتِج "الحاضرية" إذن عالما يعيش أزمة متواصلة على الدوام. فالأزمة التي شكلت وضمن مشروع الحداثة وضعية قطيعة نحتاج إلى اتخاذ قرار قصد إيجاد مخرج لها، "هي التي تركت مكانها لحالة من اللا قرار أو من انعدم القرار، فما كان استثنائيا سابقا تحوّل حاضرا إلى قاعدة متأصلة للحياة المعاصرة"، حيث يؤدى تراجع الاعتقاد في المستقبل إلى حباسنا في عالم تنتفي منه كل زمنية، لكأن حاضر الرأسمالية المالية والثورة الاتصالية والكونية وكذلك حاضر الأزمة التي كشفت عن وجهها مع بداية سنة 2008 قد استوعب داخله جميع التصنيفات القديمة (تلك التي انتهى فصلها بالكامل) للماضي وللمستقبل أيضا. لكأن الزمان في تطوّره إلى ما يشبه أفق لذاته، قد تحوّل إلى حاضر مستديم (...) أحاط نفسه بسياج من المفاهيم والمصطلحات اتسمت بشكل أو بآخر بطابعها غير المقيد بزمن، على شالكة الحداثة وما بعد الحداثة والكونية وحتى الأزمة أيضا. "فما الذي يمكن أن تعنيه كلمة أزمة "شاملة" إذا لم تكن أزمة ممتدة في الزمن تشكّل حدود حاضر مستديم ما هو سوى انعكاس لأزمة النظام الرأسمالي برمته."
لكن كيف لنا أن نتقصّى مدلولا للعالم من دون تاريخ لا يملك من الزمنية غير تلك المتصلة بالحاضر، و"لا يفقه كيفية تسوية علاقاته بمستقبل لا يستطيع تعقّله خارج إطار الإحساس بالخطر والتهيب من وشوك حصول الكارثة؟" يتعين علينا والحال على ما وصّفنا أن نعجّل باستعادة السيطرة على الزمن، حتى نستطيع إعطاء مدلول منطقي للتاريخ ولسِير الأشخاص الفردية أيضا، محوّلين المستقبل بذلك إلى شيء قابل للاشتهاء من جديد. وهو ما لا يمكن تصوّره إلا من بوابة رد الاعتبار إلى الفعل السياسي ضرورة، كي يسهم في فتح باب الرجاء على مستقبل لا تعوزنا القدرة على السيطرة عليه. رجاء يُكسب التاريخ مدلولا دقيقا بالمعنى الحقيقي للكلمة. زمن سياسي يتسع لاستيعاب "فسحة المساجلة والمداولة الحرة البناءة" حتى لا تُبتسر الحياة في حكاية لا تعني أي شيء، يقصّها بحماس دافئ رجل أبله.             
*

 Hartog(François), Croire en l'histoire, éd., Flammarion, Paris 2013. 310 pages.
- Revault d'Allonnes (Myriam ), La Crise sans fin: Essai sur l'expérience moderne du temps, éd., du Seuil, Paris 2012. 197 pages.
 Fischbach (Franck ), La Privation de monde: Temps, espace et capital, éd., Vrin, Paris 2011. 144 pages.

لطفي عيسى

lundi 19 novembre 2012

هل يحمي القانون من لا يؤمن به؟ أو أيّها السّلفي… لا تمت هدرا: فتحي المسكيني



بعد ثورات الرّبيع العربي لا يزال الجسد "العربي الإسلامي"(وهذه التّسمية لا تخلو من عبء ما "ورطانة" ما) يرزح تحت نفس النير: أنّ حرّيته لا تزال تقع أعلى من قامته، وأنّ على شخصه الكريم أن يشرئبّ أكثر إلى أفق ذاته الجديدة، فهي لم تتحقّق بعد. بيد أنّ ما صبغ جوّ النّقاش ما بعد الرّبيعي عن أنفسنا الجديدة بهالة من التكدّر والتجهّم غير المنتظر على وجوه "الثّوريّين" هو أنّ عدد الشهداء لم يتوقّف عند الذين ماتوا، بل صار يطال الذين أفلحوا في النّجاة من الآلة الدّكتاتوريّة.

 "النّاجون" هم أيضا ليسوا بمنجاة من الموت، ودائما تحت آلة الدّولة. وفجأة نتذكّر أنّ الثّورات لا تغيّر من طبيعة منطق الدّولة شيئا. الموت شبح حميم لوجه الحاكم مهما كان قناعه. ومن يلتقي بالحاكم عليه ألاّ ينسى أنّ الموت في الجوار، وإن كان يلبس أكثر البزّات سلميّة وشرعيّة. لا يمكن لأيّ دولة أن تستغني عن سياسة في الموت، لأنّها جزء من ماهيّة السلطة باعتبارها استعمالا واحتكارا للاستعمال الشّرعيّ للعنف.

وبالفعل فقد بلغت ثورات الرّبيع العربي مستوى المفارقة وربما "الكلبيّة" غير المرحة بأيّ وجه، عندما أخذت تأكل أبناءها، بنهمٍ أقوى من نهم الحاكم الهووي الذي ظننّا أنّنا تخلّصنا من وجهه إلى الأبد. – لقد مات في تونس هذه الأيّام شباب يُدعى "سلفيّا"، قابعًا في سجون حكومات الثّورة، بعد إضراب جوع متوحّش قارب الستين يوما. اكتملت المفارقة: حكومات تنتصر انتصارات انتخابيّة واسعة النّطاق (من دون أي انتصار سياسي يُذكر) لم تعد تحتمل السّكوت على عمقها الاستراتيجي: الشّباب السلفي المستعدّ للذّهاب في الذّود عن الهويّة الإسلاميّة إلى أقصى المستطاع الحيوي لأجساد منهكة هي نفسها بتقنيات نسكيّة صارمة ولابدّ أنّها مرهقة لجيل "الياغورت" و"ألعاب الفيديو" و"الأفلام الكرتونيّة" و"الأكلة السّريعة" و"الحفّاظات الطبّية"… الذي تحوّل فجأة إلى كتيبة أخلاقيّة شرسة في خدمة الإسلام المعولم.

وفجأة أصبح تظاهر الأتباع أو الحلفاء أو الأصدقاء ضربا من عدم اللّياقة الثّوريّة في غير محلّها. وفجأة نتبيّن أنّ الدّولة لا تسمح لأحد بأن يموت كما يريد. إذا ذهبت إلى أبعد ممّا تحتمله الحكومة في الشّعور أو العنف الثّوري فإنّ عليك أن تسدّد فاتورة الغضب غير المرخّص له على حسابك. إنّ الدّولة غير مسؤولة عن حياة من يثور أكثر من اللاّزم، أو يتجاوز الخطّ الثّوري للحكومة. إنّ غضبك مثل أيّ سلعة سياسيّة أخرى ليست ملكا لك وحدك. بل هي من ثروات الوطن، وعليك أن تحتاط في استخدامها، وأن تقبل سياسة الحكومات في ترشيد استهلاكها. وهذا يعني أنّ القانون لا يحمي الغاضبين في أيّ دولة؛ بل هو ربّما ما خُلق إلاّ من أجل السّيطرة عليهم وحماية الدّولة من النتائج ما بعد الثّورية لأفعالهم.

تعاني دول ما بعد الثّورة من مفارقة خبيثة: أنّه سرعان ما تصبح فكرة الثّورة عبءا أخلاقيّا ينبغي التّعجيل في التخلّص منه. تبدأ الدّولة حيثما تنتهي الثّورة. ويستفحل الأمر بقدر ما يحرص "الثّوريّون" على اعتلاء سدّة الحكم والتحوّل السّريع إلى وزراء ورؤساء، وغبار الثّورة لا يزال على أكتافهم المنهكة. فإذا بهم ينقلبون إلى فقهاء يُفتون في كلّ شيء وإلى آلهة مزيّفة تبرّر الذّمم وتعفو عمّن تريد وتحاسب من تشاء. وكلّ ذلك باسم شرعيّة لا يرقى إليها الشكّ.

من أجل ذلك، يبدو موت بعض الشّباب السّلفي الذي تظاهر في شوارع تونس "ما بعد الثّورة"، وفي سجون حكومات تحقيق أهداف الثّورة، وبعد إضراب جوع متوحّش، فاق حدود الشّخصيّة الإنسانيّة الكونيّة إلى رتبة الاستشهاد السّالب،- يبدو هذا الموت فضيحة أخلاقيّة ووصمة عار في وجه كل الثّورات العربيّة، وشوكة ناتئة وجارحة في قلب الرّبيع العربي الذي لا تزال الأناشيد له على قدم وساق. قبل مدّة قليلة، كنّا نؤرّخ لملامح الرّعب الكبير من وصول الأحزاب "الإسلامويّة" إلى الحكم، ولم يكن يطمئنّ النّاس إلى شرعيّة الانتخابات التي سمحت لهم بذلك. لكنّ الوقت لم يطل بنا حتّى فاجأنا موت الشبّان السّلفيين في سجون الثّورة، وتحت خطّ الرّعاية الحقوقيّة والطبّية لأجسادهم "المسلمة". هل تمّ اختيار إسلام دون آخر؟ وما هو "الإسلام المعتدل" حتى يسمح بموت المسلمين "السّلفيين"؟ فجأة انتصر منطق الدّولة، وانهزم الانتماء الدّيني للثّوريّين الجدد.

إنّ ما يثير حقّا في تجربة هؤلاء الشّباب السّلفيين هو كونهم يصطدمون بقانون دولة مدنيّة لا يؤمنون بشرعيّتها الدّينيّة. لكنّ ما كان يطمئنهم على مصيرهم الشّخصي هو أنّهم يتظاهرون في شوارع حكومة وصلت إلى الحكم باسم الدّين. ومن ثمّ أنّ المحظور لن يقع أبدا: الثّورة من جهة، والدّين من جهة أخرى، سوف يمنعان السّلطة من الانتقال إلى استعمال الموت كوسيلة ردع للغاضبين، كما فعل الحاكم الهووي من قبل.
ومع ذلك، فإنّ ما وقع هو العكس. صحيح أنّ الدّولة لم تقتل أحدا بالرّصاص. لكنّ الموت قد حصل. لا يحتاج الموت إلى التّقنية حتى يقتل الأجساد البشريّة من خارج، بل هو يمكن أن يصعد إليها من داخلها. هو سوف يسمح فقط لهذه الأجساد بأن تقتل نفسها. وذلك عندما يضعها في موقع تفقد معه مناعتها الذّاتية، وتتحوّل إلى كتلة لحميّة مراقبة، ملقى بها في غياهب السّجن الحديثة، كما وصفها فوكو: السّجن في شكل "بانومبتيك"، يمكّن الحارس السّجّان أن يرى السّجين دون أن يراه. بل أكثر من ذلك كما فسّر دولوز: أن يفرض سلوكا هلاميّا على تلك الكثرة الإنسانيّة المجهولة، من دون أيّ توقيع آخر. في السّجن يتمّ تحويل السّجين إلى "أيّ كان"، إلى "فلان" لحميّ فاقد لأيّ حريّة شخصيّة. ومن ثمّ يُعامل باسم القانون على أنّه homo sacer كما قال القانون الرّوماني من قبل: شخص منبوذ، فقد كلّ حقّ قانوني، يتمّ عزله، يمكن لأيّ كان أن يقتله، لكنّه لا يصلح لأن يكون قربانا بشريّا في المناسك الدّينيّة. وحسب الفيلسوف الإيطالي أغامبن، إنّ الإنسان المنبوذ أو المهدور دمه، هو من النّاحية القانونيّة بمنزلة "المنفيّ" (وإن كان منفيّا إلى الدّاخل)، لكنّ ذلك ينطوي على مفارقة: إنّ الذي ينفي أو يُقصي أو يجرّد من الحقوق هو نفسه القانون الذي يمنح نفس الشّخص ضربا ما من الهويّة القانونيّة. وإنّه على أساسها تتمّ محاكمته أو إدانته.

السّلفي الجديد شاب يتمّ القبض عليه متظاهرا (و"المتظاهر" هو قد صُنّف كما نعلم باعتباره شخصية العام 2011 عند مجلة Time Magazine، المتظاهر كوجه كوني للحريّة، أثناء الرّبيع العربي، جنبا إلى جنب مع أحداث عالميّة أخرى، من قبيل حركات السّخط في أوروبا، وحركة "احتلّوا شارع وول ستريت" ومناهضي بوتين في روسيا..). لكنّ هذا "المتظاهر" له رونق خاص: إنّه لا يؤمن بشرعيّة الدّولة الحديثة (الوضعيّة) ولا بحقّ المواطنة النّشطة، ولا بالمشاركة الجمهوريّة، ولا بالحياة الخاصّة اللبراليّة، ولا بالفاصل بين نماذج العيش وقواعد الدّيمقراطيّة، ولا بالتّمييز بين العمومي والخصوصي، ولا بين قيم الخير الثّقافيّة ومعايير العدل القانونيّة…

إنّه ضدّ الدّولة المدنيّة القائمة على القانون الطّبيعي والتّشريعات الوضعيّة. ولا يرى فرقا بين "الرّعية" و"المواطنة"، وبين الحكومة و"أولي الأمر"، ولا بين "القانوني" و"الشّرعي"…

بكلمة واحدة: هو لا يؤمن بالقانون الوضعيّ، لكنّه يدخل السّجن باسم هذا القانون، ويقع تحت طائلته. وإنّ المفارقة هنا هي: ما الذي تمّ القبض عليه في الشّاب السّلفي: جسده الفقهي أم جسمه الحيوي البشري الصّرف؟ - يساعدنا تمييز أغامبن بين الحياة الحيوانيّة (zoë) وبين الحياة السّياسيّة (bios) على مساءلة وضعيّة السّلفي في السّجن: إنّ حالته استثنائيّة في معنى طريف. على الرّغم من أنّ الدّولة تحاسب النّاس على حياتهم السّياسيّة فهي لا تقبض في الشّارع إلاّ على حياتهم الحيوانيّة. وحده "الحيوان"يمكن أن يكون فخّا ناجعا للقبض على "البشر". وليس السّجن غير أعرق تقنيّة لإرجاع البشر إلى عالم الحيوان. وفي حالة السّلفي تنطوي المشكلة على مفارقة: كيف يحقّ للقانون أن يقبض على شخص لا يؤمن به؟ بأيّ حقّ يسوغ للدّولة أن تطبّق القانون الوضعي على إنسان لا يرى نفسه "مواطنا" بقدر ما ينظر إلى "نفسه" بوصفها نفساً مخلوقة تحت أوامر خالقها، ومن ثمّ هو يفرّق جيّدا بين "الإنسان" (الذي يمكن أن يكون مواطنا تحت حكم الدّولة المدنيّة) وبين "الآدميّ"( الذي لا يحق له أن يكون إلاّ مؤمنا ملتزما بأحكام الشّريعة) ؟
ما قاد السّلفي إلى موته هو سوء فهم بنيوي بين المؤمن والمواطن في شخصيّة المسلم ما بعد الثّورة: أين يقف الإيمان وأين تبدأ المواطنة ؟ - ليس من السّهل إقناع الشّاب السّلفي برسم حدود واضحة بين المجالين. لكنّ هذا الشّباب السّلفي ليس معيارا أخلاقيّا ولا قانونيّا لنفسه. رغم أنفه هو بشريّ معاصر. ومن ثمّ فهو يوجد تحت صلاحيّة كلّ إعلانات حقوق الإنسان منذ الثّورة الفرنسيّة.

وهكذا فإنّ الغضب "السّلفي" ليس سلفيّا إلاّ من حيث المقاصد فقط. أمّا من جهة النّشأة التّاريخيّة والبنى التي يأخذها والمشاكل السّياسيّة أو الأخلاقيّة أو القانونيّة التي يثيرها، هو غضب معاصر، وينتمي إلى تاريخ السّخط الذي بدأ في شوارع باريس سنة 1789 وتحوّل إلى آداب كونيّة للدّفاع عن كرامة الشّخص الإنساني وعن قيمة الإنسانيّة في جسد كلّ فرد مهما كانت هويّته.
بذلك على القانون أن يحمي من لا يؤمن به. لأنّ صلاحيّة القوانين كونيّة، ولا علاقة لها بالآراء الخاصّة. والإيمان مهما علا شأنه، فهو من النّاحية القانونيّة رأي أو معتقد أو تصوّر خاصّ للخير عامة. ولا يمكن له أن يتدخّل أو يوجّه آلة العدالة في مجتمع ما. إنّ العدل كونيّ وواحد أو لا يكون. أمّا الخير فهو ثقافيّ ومتعدّد وهوويّ. ولأنّ العدالة لا هويّة لها، فإنّ موت الشّاب السّلفي كان هدرا بحتاً. وهذا النّوع من الخسارة "البشريّة" لا يمكن تبريره أبدا. ربّما قد يعنّ لفرقة دينيّة أو كلاميّة أن تبرّر موت مؤمن مخالف في الدّعوى، لكنّ القانون الحديث لا يحقّ له أبدا أن يبرّر موت أيّ شخص مهما كان. فالقانون لا يثأر من أحد. 
السبت 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2012
موقع الأوان
http://www.alawan.org/%D9%87%D9%84-%D9%8A%D8%AD%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86.html

mardi 11 septembre 2012

أوصيكم بالليل خيرا، أمّا أنا فسأتبع الشمس حيثما تذهب

أوصيكم بالليل خيرا، أمّا أنا فسأتبع الشمس حيثما تذهب
صحراء ما بين توزر ونفطة: سبتمبر 2012
تصوير: طارق الغزال