lundi 15 juillet 2013

حتى لا تُبتسر الحياة في حكاية لا تعني أي شيء، يقصّها بحماس دافئ رجل أبله.

مع مرور كل ساعة، لا يوجد شيء اسمه لاحقا، فالمنظور يُصنع الآن"
كورمك مكّاركي، الطريق.


هل لما نحياه اليوم من مدلول يُتقصى؟ ذلك هو السؤال الذي سنضطر إلى طرحه بالضرورة إزاء التاريخ في اتصاله بالإنسانية أو بمجتمع بعينه أو حتى بسيرنا الفردية. فضمن حوار مسرحي معروف يدفع شكسبير ببطل روايته "ماكبث" إلى القول بـ"أن الحياة ليست سوى ظل يتحرك...وخرافة لا تعني أي شيء، يقصّها بحماس دافئ رجل أبله." (الفصل الخامس - المشهد الخامس ). فهل كان "ماكبث" على حق، أم أن للتاريخ مدلول بوسعنا فكّ شفرته وفهمه؟
إن الانشغال بالماضي يحملنا ضرورة على طرح هذا التساؤل، كما هو يدفعنا إلى الاستفهام حول علاقتنا بالزمان تحديدا. فقد أبدى الفلاسفة والمؤرخون منذ القدم اهتماما بالغا بهذا النوع من الأسئلة التي قد تُسعف الإجابة عنها في تعقّل موقعنا ضمن نظام الكون. ونقترح ضمن هذا الإطار قراءة متأنية لثلاثة أعمال صدرت حديثا، قدمت لنا وجهات نظر متقاطعة، من شأنها أن تتيح تعميق التفكير والحوار أيضا بخصوص موضوع محوري يتصل بالانقلاب الكليّ الذي عاينه فهمنا للتاريخ حاضرا.*
فإزاء التحولات الاجتماعية والتكنولوجية والاقتصادية والجيوسياسية المتسارعة التي تعصف بالعالم، يبدو نسق حياتنا الجماعية كما الشخصية وكأنه يعاين عملية تسريع نسق مشوبة بحالة من الذهول إزاء ألاف الكوارث التي تترصد سلامة حياتنا اليومية.  "فسرعة النسق توازيها شدة الذهول، والتحوّل يرافقه إحساس بالجمود، حيث تبدو المجتمعات المعاصرة لناظرها ساكنة ومتقلّبة في آن".
ذلك ما احتفظت به "مريام روفو دالونّيس Myriam Revault d’Allonnes" ضمن مؤلَفها "الأزمة التي لا نهاية لها: مقاربة حول التجربة الحديثة للزمن La Crise sans fin : Essai sur l’expérience moderne du temps ". لا شك في أن علاقتنا بالزمان وبالتاريخ - بما في ذلك تاريخ سيرنا الفردية - قد عاينت العديد من التحولات على مرّ العصور، وهو أمر أثبته فرنسوى هارطوغ François Hartog المؤرخ المتخصّص في تاريخ اليونان القديم وفي مناهج صناعة الخبر أيضا، ضمن مؤلفه "الإيمانبالتاريخ Croire en l’histoire"، معتبرا أن مناهج تلك الصناعة تتساوق مع حاضر يتسم بالديمومة، أطلق عليه تسمية" الحاضريّةprésentisme".

يعمّق هارطوغ التفكير حول هذه التصوّرات التي سبق له وأن تعرّض لها بكثير من التمحيص ضمن واحد من مؤلفاته حول التاريخ والزمنية نشر سنة 2003 تحت عنوان "الأنظمة التاريخانية: الحاضِريّة والتجارب المتصلة بالزمن  Les régimes d’historisité : présentisme et expériences du temps ". فقد تم المرور خلال القرن الثامن عشر من نظام قديم إلى نظام محدث للتاريخانية. واتسم النظام الأول برؤية تعتقد في قدرة الماضي على تفسير الحاضر بل والإشعاع بأنواره عليه"، في حين يبدو النظام المُحدث للتاريخانية "متمركزا حول المستقبل الذي أضحى ينير الماضي ويوضّح طريق الفعل أو العمل". ينبثق نظام التاريخنية المحدثة من انطباع الإيمان بالتقدم في المسار الزمني لقرن الأنوار، علما أن نهاية القرن العشرين قد شكّلت إعلانا عن وفاة ذلك الاعتقاد في المسار الخطي للتقدم البشري. وهكذا فإن ضبابية المستقبل لم يعد من الممكن التعويل عليها في توضيح "سبيل الفعل"، لذلك أضحت البشرية مطوقة بحاضر مستديم ليس بوسع لا الماضي ولا المستقبل إنارته. "فعندما كان لا يعترينا شك في حتمية التقدّم، كان ما يخُطّه المؤرخ ينير منجز البشرية ويسمح عبر تملي ما أقدمت على تحقيقه فعليّا في الواقع، غير أنه لم يعد من الممكن التعويل على هذا النظام المخصوص في صناعة الخبر(...)، بعد أن وقعنا بالكامل في حبال حاضر غلبت عليه "حاضريتة"، فأضحينا نجد صعوبة جمّة في التعرّف بدقة على التحولات الجنونية التي يعاينها العالم. فما كان مقرّبا من ذاتنا ماضيا يبدو اليوم لنا متلبسا بغربة مبهمة، هي ذات تلك الغربة أو الغيرية المؤلوفة لدى صنّاع الخبر التاريخي في تعقّبهم لبصمات الماضي".
يستوحي كل من "مريام روفو دالونيس" و"فرنسوى هارطوغ" تصوراتهما من التوجهات التي قادت المؤرخ الألماني رينهارد كوسلاك Reinhard Koselleck بخصوص ظهور مثل هذه "الحاضرية" ودورها الحاسم في قلب تمثلنا للزمن الحاضر. فبين مجال التجربة المنجزة في الماضي وأفق الانتظار المتصل بالمستقبل، توجد حالة من التجاذب القوي وفقا لعبارة كوسلاك، حيث يسهم التطوّر التكنولوجي في تعميق المسافة بين الوضعيتين، مُفكّكا الرابطة بين أشكال الزمنية الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)، محيلا على حاضر متّسق لا مكان فيه لأي رجاء. مما ينهض حجة على أن تسارع نسق التطوّر التكنولوجي هو المتسبّب وبشكل عكسي في القضاء على كل أمل في تحقيق ما هو منظور من التقدم.

يحلل الفيلسوف فرانك فيشباخ Franck Fischbach من ناحيته وضمن مؤلفه "الحرمان من العالم La privation de monde" وعبر توجه آخر يتقصّى فلسفة الاقتصاد، "الحاضر المستديم أي اللازمنية واللا تاريخية"، من خلال وصلهما بمدلول التقدّم التكنولوجي. فقد أثّرت إعادة القراءة التي اقترحها للنظريات الفلسفية التي صاغها ماركس وهيدجير في نظرتنا للعلاقة التي تصلنا بالزمن من زاوية إعادة توضيح ما يربطه بالمجال المعولم تخصيصا. حيث ما انفكّ التوسع المطّرد للعولمة يلغي المسافات ويجعل البعيد على غرار القريب في متناولنا، مما يؤثر قطعا وبشكل لافت على طبيعة علاقتنا بالزمن. "فإنتاج حيّز مجالي تتقلص ضمنه المسافات تدريجيا يولّد بالضرورة إنتاج زمنية تتسم بسيطرة الحاضر. وبما أنه ليس بوسعنا أن نلغي المسافات دون أن نراجع في العمق فهمنا لمدلول الزمن أيضا"، يجد هذا التضييق المستديم للأفقين المجالي والزمني منطلقه ضمن هذه الحركة المزدوجة والمتعارضة التي تسجننا في بوتقة حاضر أزلي. فمن ناحية لا يمكن لنا أن نتجاهل النمو المتواصل – الذي تعكسه التحولّات التكنولوجية المتسارعة والتي غالبا ما نصلها بمدلول للتقدم غير قابل للتعريف الدقيق – وفي جانب مقابل يحيل سجل القيم الاقتصادية على الأسس الثابتة للنظام الرأسمالي. "
وهكذا يصبح لدينا دفق زمني موصول يتسم غالبا بتقدم غير قابل للتعريف، توازيه حالة من انعدم الحراك تتعلق بالحاضر المؤبد للقيمة" أي لمجال الضابط أو الرادع الاجتماعي. وهو ما يؤدى بالتدرج إلى "تشكيل صورة لمجتمع تغلب عليها السكونية وتدفعه حالة من الإكراه الداخلي الذي يعجز عن صده إلى إعادة إنتاج نفسه على نفس الهيئة وبشكل مستديم (...) توازي تلك الصورة ومن جانب مقابل صورة عكسية لمجتمع يعيش وضعية تحول تكنولوجي موصول"، متأرجحا بين مزيج من التاريخانية والسكونية".
وهكذا نجد أنفسنا إزاء "زمنية تتخذ شكلا ثنائي لحاضر يتسم بالإكراه يتخذ شكل الضابط الذي ليس بوسعنا الفكاك منه، وشكل الدفق الزمني للتقدم التراكمي غير القابل للتعريف الذي لا نستطيع مغالبته"، والذي يعتبره فرنك فيشباخ انعكاسا للشكل المعاصر لتبعيتنا للنظام الاقتصادي الرأسمالي السائد.
تُنتِج "الحاضرية" إذن عالما يعيش أزمة متواصلة على الدوام. فالأزمة التي شكلت وضمن مشروع الحداثة وضعية قطيعة نحتاج إلى اتخاذ قرار قصد إيجاد مخرج لها، "هي التي تركت مكانها لحالة من اللا قرار أو من انعدم القرار، فما كان استثنائيا سابقا تحوّل حاضرا إلى قاعدة متأصلة للحياة المعاصرة"، حيث يؤدى تراجع الاعتقاد في المستقبل إلى حباسنا في عالم تنتفي منه كل زمنية، لكأن حاضر الرأسمالية المالية والثورة الاتصالية والكونية وكذلك حاضر الأزمة التي كشفت عن وجهها مع بداية سنة 2008 قد استوعب داخله جميع التصنيفات القديمة (تلك التي انتهى فصلها بالكامل) للماضي وللمستقبل أيضا. لكأن الزمان في تطوّره إلى ما يشبه أفق لذاته، قد تحوّل إلى حاضر مستديم (...) أحاط نفسه بسياج من المفاهيم والمصطلحات اتسمت بشكل أو بآخر بطابعها غير المقيد بزمن، على شالكة الحداثة وما بعد الحداثة والكونية وحتى الأزمة أيضا. "فما الذي يمكن أن تعنيه كلمة أزمة "شاملة" إذا لم تكن أزمة ممتدة في الزمن تشكّل حدود حاضر مستديم ما هو سوى انعكاس لأزمة النظام الرأسمالي برمته."
لكن كيف لنا أن نتقصّى مدلولا للعالم من دون تاريخ لا يملك من الزمنية غير تلك المتصلة بالحاضر، و"لا يفقه كيفية تسوية علاقاته بمستقبل لا يستطيع تعقّله خارج إطار الإحساس بالخطر والتهيب من وشوك حصول الكارثة؟" يتعين علينا والحال على ما وصّفنا أن نعجّل باستعادة السيطرة على الزمن، حتى نستطيع إعطاء مدلول منطقي للتاريخ ولسِير الأشخاص الفردية أيضا، محوّلين المستقبل بذلك إلى شيء قابل للاشتهاء من جديد. وهو ما لا يمكن تصوّره إلا من بوابة رد الاعتبار إلى الفعل السياسي ضرورة، كي يسهم في فتح باب الرجاء على مستقبل لا تعوزنا القدرة على السيطرة عليه. رجاء يُكسب التاريخ مدلولا دقيقا بالمعنى الحقيقي للكلمة. زمن سياسي يتسع لاستيعاب "فسحة المساجلة والمداولة الحرة البناءة" حتى لا تُبتسر الحياة في حكاية لا تعني أي شيء، يقصّها بحماس دافئ رجل أبله.             
*

 Hartog(François), Croire en l'histoire, éd., Flammarion, Paris 2013. 310 pages.
- Revault d'Allonnes (Myriam ), La Crise sans fin: Essai sur l'expérience moderne du temps, éd., du Seuil, Paris 2012. 197 pages.
 Fischbach (Franck ), La Privation de monde: Temps, espace et capital, éd., Vrin, Paris 2011. 144 pages.

لطفي عيسى

Aucun commentaire: